
مرحلة الطفولة: هل بالغنا في تقدير أهميتها؟
تزداد الوعي بأهمية مرحلة الطفولة في حياة الإنسان بشكل مستمر، وقد تجاوزنا مرحلة الاعتراف بها إلى التساؤل: إلى أي درجة هي مهمة حقًا؟ هناك فئة من المجتمع تميل إلى أن ما يطرحه المختصون في هذا المجال قد يكون مبالغًا فيه، بينما يواصل المختصون التأكيد على أن هذه المرحلة أكثر أهمية مما قد نعتقد. في هذا المقال، نتناول هذا السؤال الرئيسي: إلى أي درجة تعتبر مرحلة الطفولة مهمة؟
من المفيد بدايةً فحص موقف أولئك الذين يعتقدون أن التركيز على الطفولة قد تم تضخيمه بشكل غير واقعي. هؤلاء يرون أن الاهتمام الحالي بالممارسات التربوية في الطفولة هو أمر “حديث” وغير مسبوق، وكان من الممكن أن تتم تربية الأطفال دون هذه التركيزات، وأن هناك عواقب قد تترتب على هذا الاهتمام الزائد، مثل الحماية المفرطة التي قد تؤدي إلى اعتماد الأطفال بشكل مفرط في مراحل لاحقة. كما يرون أنه يجب أخذ التباين في تأثير التجارب المبكرة بعين الاعتبار، مستشهدين في ذلك بقصص لأشخاص نجحوا رغم الشدائد التي تعرضوا لها في طفولتهم. يعبّر البعض منهم عن هذه الفكرة بقولهم: “نشأنا في ظروف صعبة، ورغم ذلك تمكنا من التغلب على التحديات.”، وهو منظور يمكن تفهمه بشكل عام، حيث لا ينكر هؤلاء أهمية الطفولة، لكنهم يختلفون في درجة التركيز عليها.
على الجهة المقابلة، نجد المختصين في مجالات عدة، مثل علم نفس النمو، علم الأعصاب، الطب النفسي، والمجال التربوي، الذين يستندون إلى الاكتشافات العلمية التي تشير إلى أننا لا نزال بعيدين عن تقدير أهمية مرحلة الطفولة وفهمها بالكامل. هؤلاء المختصون يؤكدون أن شخصيتنا وصحتنا الجسدية والنفسية، وكفاءة أدمغتنا ككبار، تعتمد بشكل أساسي على الخبرات التي مررنا بها في الطفولة، إلى جانب بعض المحددات الأخرى مثل الجينات، الثقافة، والوضع الاقتصادي والاجتماعي. ولكن على ماذا يستند هذا الادعاء؟
لقد حاول العلماء دراسة تأثير الخبرات المؤلمة في الطفولة (Adverse Childhood Experiences - ACEs)، التي يرمز لها بـ (ACEs Score)، على الحالة المستقبلية للإنسان. كانت النتائج مدهشة: فكلما ارتفع الطفل في مقياس ACEs، زادت احتمالية إصابته بأمراض عضوية أو ارتكابه سلوكيات متهورة عندما يصبح بالغًا. على سبيل المثال، الطفل الذي مر بثلاث تجارب مؤلمة كان أكثر عرضة بنسبة 105% للتهور والأمراض الجسدية مقارنةً بالبالغ الذي لم يتعرض لأي من هذه التجارب. وقد أجبرت هذه النتائج الباحثين على تكرار الدراسات، وكانت النتائج ثابتة في كل مرة.
في الختام، بغض النظر عما قد يبدو معقولًا لنا فيما يتعلق بأهمية مرحلة الطفولة، تشير الأبحاث العلمية إلى أن السنوات الأولى من عمر الطفل ليست فقط مرحلة للنمو الجسدي، بل هي أيضًا مرحلة حاسمة لنمو الدماغ والشخصية بطرق عميقة وطويلة الأمد، وأن خبرات هذه المرحلة تحمل قوة تنبؤية كبيرة لمستقبل الإنسان. لذا، فإن توفير بيئة صحية وداعمة للأطفال يعتبر أمرًا بالغ الأهمية لضمان نموهم السليم.
بالطبع، لا يمكننا أن نكون مثاليين في تربية الأطفال، لكننا يمكن أن نكون “جيدين بما يكفي”. ويتحقق ذلك من خلال الاستعداد المادي والنفسي قبل الإنجاب، والتوعية بالمراحل العمرية والتغييرات التي تحدث خلالها، وكيفية التعامل معها. من المهم أيضًا استشارة المختصين عند الحاجة، وتجنب تعريض الأطفال لمشاحنات الكبار، مع تخصيص وقت كافٍ لهم للاستماع إليهم ومشاركة اهتماماتهم وتمكينهم منها.
المصدر:
تاريخ النشر:
13:37:18 2025-01-30
عدد المشاهدات:
88