في عالم تتزايد فيه الأزمات والصدمات الفردية والجماعية، يبرز اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) واحدًا من أكثر الاضطرابات النفسية تعقيدًا وتأثيرًا في جودة الحياة. إذ لا يقتصر أثره على مشاعر الخوف أو الذكريات المؤلمة، بل يمتد ليعيد تشكيل نظرة الإنسان إلى نفسه، وإلى الآخرين، بل إلى العالم.
وفي اليوم العالمي لاضطراب ما بعد الصدمة، يصبح من الضروري أن نتوقف قليلًا لفهم الأثر العميق لهذا الاضطراب من الزاوية النفسية تحديدًا؛ كيف يُضعف الاستقرار الداخلي؟ وكيف يمكن للدعم النفسي والعلاج المتخصص أن يفتح بابًا نحو التعافي والطمأنينة؟
1. ما اضطراب ما بعد الصدمة؟
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، يُقدَّر أن نحو 3.9٪ من سكان العالم يعانون PTSD خلال حياتهم.
وتتجلى أبرز سماته النفسية في:
- إعادة تجربة الحدث: ذكريات متكررة، أو كوابيس، أو استرجاع مفاجئ.
- تجنُّب التحفيزات: الابتعاد عن الأماكن أو الأشخاص المرتبطين بالصدمة.
- فرْط اليقظة: توتر دائم، أو أرق، أو ردود فعل مبالَغ فيها.
2. البُعد النفسي: كيف تؤثر الصدمة في العقل؟
يكون ذلك من خلال:
• اضطراب التنظيم العاطفي
دراسة نُشرت في Psychological Science أظهرت أن الصدمة تُضعف قدرة الدماغ على تنظيم المشاعر، فيؤدي إلى اللجوء إلى سلوكيات مؤذية مثل تعاطي الكحول أو الانسحاب الاجتماعي.
• ضعف المرونة النفسية
تحليل حديث في Middle East Current Psychiatry وجد أن الأفراد الذين يفتقرون إلى المرونة النفسية هم أكثر عرضة للإصابة بـ PTSD، خاصةً عند التعرّض لصدمات متعددة أو في مراحل عمرية حساسة.
• خلل التوازن الهرموني
دراسات على مجتمعات غير صناعية تشير إلى أن PTSD يؤثر في إفراز هرمونات مثل الكورتيزول والتستوستيرون، ما يعمّق الأعراض النفسية والجسدية المرتبطة بالاضطراب.
3 . العلاجات النفسية الفعالة
أبرزها:
• TF-CBT: العلاج المعرفي السلوكي المركِّز على الصدمة.
هو الخيار الأول للأطفال والمراهقين، وقد أثبت فعاليته في تقليل الاكتئاب والقلق.
• EMDR: إعادة المعالجة عبر حركة العين
توصي به مراجعات Cochrane واحدًا من أكثر العلاجات فعالية للبالغين، خصوصًا في تصفية الذكريات المؤلمة.
• Prolonged Exposure (PE)
يعتمد على مواجهة تدريجية للذكريات، ونسبة التحسن تصل إلى 75٪.
• VNS وTMS: التحفيز العصبي
VNS : علاج مباشر للعصب المبهم، وهو فعال للمرضى المقاومين للعلاج.
TMS: فعَّالٌ، للجنود وضحايا الحروب خاصةً، ونسبة الشفاء قد تتجاوز 90٪.
العلاجات المبتكرة
أبرزها:
• Brainspotting: نتائجه واعدة، مماثلة لـ EMDR بعد جلستين فقط.
• تقنية EEG وPrism: ساعدت على تقليل الأعراض كثيرًا لدى ثلثي المشاركين.
4. أبحاث المستقبل: الطب النفسي المدعوم بالتقنية
من الابتكارات الحديثة:
• الذكاء الاصطناعي (AI) لرصد العلامات المبكرة.
• الواقع الافتراضي (VR) لمحاكاة بيئات علاجية آمنة.
• تقنية TMR لإضعاف الذكريات المؤلمة في أثناء النوم.
5. نحو نظرة إنسانية متعاطفة
في هذا اليوم العالمي نوصي بأن:
• التقبل المجتمعي ضرورة، وليس ترفًا.
• الدعم النفسي المبكر يقلل من تفاقم الأعراض.
• كل تجربة فريدة، ولا توجد "وصفة واحدة" للشفاء.
الخاتمة:
اضطراب ما بعد الصدمة ليس نهاية المطاف؛ بل هو جرح نفسي يحتاج إلى فهم ورعاية، لا إلى تجاهل أو وصم. ومع تطور العلوم وتنوع أساليب العلاج، يبقى الاحتواء الإنساني، والاعتراف بالألم، هو الخطوة الأولى نحو الشفاء الحقيقي.