الإرهاق النفسي في زمن الأزمات: حين تصبح متابعة كل شيء عبئًا على النفس
في ظل الاضطرابات العالمية والتوترات المتكررة التي يشهدها العالم اليوم، تتعالى الأصوات، وتتسارع وتيرة الأخبار، وتتشابك المشاعر بين الخوف والتعاطف والقلق. هذه المشاهد، برغم بُعدها المكاني، قد تُحدث أثرًا نفسيًّا، وتترك بصمة على الوجدان.
ومع استمرار التعرض لهذه المؤثرات دون وعي أو توقف، يُصبح ما يُعرف بـ"الإرهاق النفسي" خطرًا خفيًّا يتسلل إلى حياتنا اليومية.
ما الإرهاق النفسي المرتبط بالأحداث العالمية؟
الإرهاق النفسي هو حالة من الاستنزاف العاطفي والذهني، تنشأ نتيجة الانشغال المستمر بأحداث مؤلمة أو مقلقة، سواء كانت قريبة أو بعيدة. لا يشترط أن يكون الفرد في قلب الحدث حتى يتأثر، فمجرد المتابعة المتكررة، ومراكمة الشعور بالعجز أو الحزن، كفيل بأن يخلق حالة من الإجهاد الذهني قد تتحول لاحقًا إلى اضطرابات مزمنة مثل القلق أو الاكتئاب.
لماذا نشعر بهذا الثِّقَل مع أننا في أمان؟
لأن النفس البشرية بطبيعتها تتأثر بالتعاطف، وتنجذب تلقائيًّا نحو معاناة الآخرين، خاصة حين تكون المعاناة ذات طابع إنساني مؤلم.
لكن المشكلة هي أن المتابعة المفْرِطة، دون استقبال صحي للأخبار أو وعي لحدود المسؤولية الذاتية، تُحوِّل التعاطف إلى عبء داخلي، ويصبح الإنسان محاطًا بدوامة من الأخبار والمشاعر السلبية التي لا يملك حيالها حلًّا.
وهنا تبرز مفارقة مهمة: نحن نعيش -بفضل اللَّه- في بيئة آمنة مستقرة، تحمينا من فوضى الأحداث الجارية في مناطق عدة من العالم.
لكننا نُحمِّل أنفسنا ما يتجاوز طاقتها، وننقل أوجاع الخارج إلى داخلنا، دون أن ندرك أننا بهذا الشكل نؤذي أنفسنا أكثر مما نواسي غيرنا.
النتائج النفسية المحتملة لهذا الاستنزاف:
- اضطرابات النوم.
- الشعور المزمن بالتوتر والقلق.
- ضعف التركيز والإنتاجية.
- الإحساس بالذنب أو العجز.
- انخفاض الطاقة والرغبة في التفاعل الاجتماعي.
كيف نخفف من أثر هذا الإرهاق؟
علينا:
- انتقاء ما نستهلكه من محتوى: إذ ليس كل ما يُعرض يجب متابعته، بل يجب تقييد وقت التعرض للأخبار، خاصة قبل النوم.
- العودة إلى الوعي الذاتي: راقب حالتك النفسية عند متابعة الأحداث، واسأل نفسك: هل هذا يفيدني الآن؟
- ممارسة الامتنان الواقعي: إدراك نعمة الأمان التي نعيشها يجب أن تُترجَم إلى تهدئة داخلية، لا شعور بالذنب أو الضغط.
- التفريغ العاطفي الآمن: التحدث مع مختص، أو الكتابة، أو ممارسة التأمل؛ كلها وسائل تساعد على تفكيك المشاعر المتراكمة.
- دعم الآخرين بطريقة متزنة: يمكننا أن نساعد بالدعاء، أو بالتبرع، أو بنشر الوعي؛ لكن دون استنزاف أنفسنا.
خاتمة:
أمام كل ما يحدث في العالم، تبقى النفس أمانة في أعناقنا.
قد لا نملك تغيير مجريات الأحداث الكبرى، لكننا نملك حق اختيار كيف نعيشها داخليًّا، ومدى تأثيرها في صحتنا وسلامنا النفسي.
ولعل من أعظم ما نحيا به اليوم -وقَلَّ من يستشعره كما ينبغي- هو نعمة الأمن والأمان التي نعيشها في وطننا.
هي نعمة عظيمة، نمرُّ بها كل يوم دون أن نلتفت، ولا ندرك قيمتها الحقيقية إلا حين تُفتقد.
حين نعيش في وطنٍ آمن، فنحن نملك فرصة للهدوء، للتعافي، للنظر إلى الحياة بتوازن. هذه النعمة تستحق أن نُقدِّرها، لا أن نُفسدها بقلقٍ مستورَد، أو استنزاف نفسي لا طائل منه.
فلْنحافظ على هذه النعمة بدءًا من داخلنا؛ بحماية عقولنا ومشاعرنا من الانجراف خلف موجات الأخبار المثقلة، وباختيار السلام الداخلي وسط ضجيج الخارج.
تذكَّر دومًا: أنت في مكان آمن، فكن أمينًا على هذا الأمان. لا تترك خوف العالم يسكن قلبك، ولا تجعل من الأحداث البعيدة ساحة معركة داخلية تُنهكك دون جدوى.