في المجتمعات المعاصرة، تزداد الحاجة إلى أدوات وقائية تدعم الصحة النفسية وتقلل من عوامل التوتر والانغلاق. ويَبرز الذكاء العاطفي ركيزةً من الركائز الأساسية لتعزيز الوعي الانفعالي، وتنظيم العلاقات اليومية؛ ليس فقط على المستوى الفردي، بل ضمن سياقات بيئية متشابكة تشمل المدرسة، ومقر العمل، والمجتمع المحلي.
فهم الذكاء العاطفي المجتمعي
يُعرَّف الذكاء العاطفي بأنه القدرة على إدراك المشاعر الذاتية، وتنظيمها، والتفاعل معها بوعي وتعاطف. أما الذكاء العاطفي المجتمعي، فهو تطبيق هذه المهارات على مستوى الجماعة، بحيث تنتج البيئات أنماط تفاعل تُسهم في بناء الثقة، وتخفيف التصعيد، وتعزيز الانتماء.
ويُعد هذا المفهوم امتدادًا عمليًّا لمبادئ التعليم الاجتماعي العاطفي (Social and Emotional Learning – SEL)، إذ لا تُكتسب المهارات العاطفية فقط، بل تُصمَّم النظم المحيطة لتدعم ترجمتها إلى تفاعل يومي فعال (CASEL, 2021).
ومن المهم التمييز بين الذكاء العاطفي والمهارات الاجتماعية، إذ إن الأولى تبدأ من الداخل: إدارة الانفعال وتفسيره قبل نقله إلى الآخرين. أما الثانية فتركز على أنماط التفاعل الظاهرية.
البيئة المدرسية: التأسيس المبكر للوعي الانفعالي
أظهرت الدراسات أن إدماج الذكاء العاطفي في المنظومة التربوية يقلل العنف السلوكي، ويحسن العلاقات بين الطلاب والمعلمين، ويرفع التحصيل الأكاديمي.
فبحسب تقرير CASEL (2021)، فإن المدارس التي تطبّق برامج SEL لاحظت:
انخفاض العدوانية بنسبة 27%.
تحسّنًا في التحصيل الدراسي بمتوسط 11%.
ارتفاعًا واضحًا في مهارات اتخاذ القرار والعمل الجماعي.
وتوصي المدارس بـ:
اعتماد وحدات دراسية لتعليم المشاعر والتنظيم الذاتي.
تدريب الكادر التعليمي على التفهم والتفاعل العاطفي.
تفعيل بيئة دراسية تتيح التعبير دون وصم.
في العمل: القيادة تبدأ من الوعي بالمشاعر
تُعد بيئة العمل مساحة مستمرة للتفاعل النفسي والانفعالي، وقد بيّن Insel (2022) أن المؤسسات التي تنمّي مهارات الذكاء العاطفي تشهد انخفاضًا في معدل الاحتراق الوظيفي، وتحسنًا في الاتصال الداخلي، وارتفاعًا في مستويات الانتماء والتنظيم الذاتي للفِرَق
تطبيقات عملية تشمل:
جلسات تدريبية قصيرة عن الاستجابة المنظمة.
تطوير أدوات تقييم تأخذ البعد النفسي في الحسبان.
نشر ثقافة "المساءلة الرحيمة" بدلًا من التقييم العقابي.
في المجتمع والحيّ: التواصل الإنساني أساس للتماسك
المجتمعات المحلية تمثل البنية التفاعلية الأولى للانتماء، وتشكل أرضية عصبية حاسمة. يشير Barrett (2020) إلى أن الدماغ لا يكوّن استجاباته من الحدث فقط، بل من التوقعات الانفعالية التي يبنيها من السياق الاجتماعي.
بناءً على ذلك، يمكن تعزيز الذكاء العاطفي المجتمعي من خلال:
إطلاق مبادرات تثقيفية بلغة سهلة وواقعية.
إدماج مفاهيم التعبير المنظَّم في برامج الأحياء واللجان المحلية.
تقديم مساحات آمنة للحوار غير التصادمي في المساجد، والمراكز الشبابية، والمنتديات المجتمعية.
نحو نموذج تدريجي لتطبيق الذكاء العاطفي المجتمعي
1. المرحلة الأولى – الوعي بالمشاعر:
تعليم الأفراد فهم مشاعرهم وتفسيرها دون تهويل أو إنكار.
2. المرحلة الثانية – الإدماج في السلوك اليومي:
تحويل المهارات إلى ممارسة يومية ضمن التفاعل الأسري، والدراسي، والمهني.
3. المرحلة الثالثة – التنظيم المؤسسي:
تصميم السياسات، والأنشطة، والمساحات العامة بما يوفر بيئة تحفز على التنظيم الانفعالي الجماعي.
الأثر الوقائي للذكاء العاطفي المجتمعي
تشير الدراسات إلى أن الذكاء العاطفي لا يحسّن جودة التفاعل فقط، بل يُعد عاملًا وقائيًّا ضد عديد من الاضطرابات النفسية والاجتماعية.
ومن أبرز آثاره:
تقليل القلق المزمن والانفعالات المفرطة.
تحسين التفاهم بين الفئات المجتمعية المختلفة.
رفع المرونة النفسية الجماعية في الأزمات.
تقليل الممارسات المؤذية أو الاندفاعية داخل البيئات المغلقة (كالمدارس، والأسر، والفرق الإدارية).
خاتمة
يمثّل الذكاء العاطفي المجتمعي أحد الأطر المتكاملة لبناء مناخات نفسية مستقرة، ومجتمعات أكثر تماسكًا وتفاعلًا.
وبتطوير المهارات العاطفية، وإدماجها في السياسات، وتعزيز ثقافة التنظيم الذاتي والانفعالي في البيئات التربوية والمهنية والمحلية؛ يمكن الانتقال من التعامل مع المشاعر كأزمات إلى النظر إليها كفرص للنمو الجماعي والوقاية النفسية الشاملة.
مصدر1 مصدر2 مصدر3 مصدر4 مصدر5 مصدر6 مصدر7